إذا كان الهاتف الخلوي «الجوال» هو من أبرز المخترعات العلمية في العقد الأخير من القرن العشرين، فإنه أيضاً من أبرز الابتكارات التي ثار الجدل الطبي حولها نتيجة لما ذكرته بعض الأبحاث عن أخطاره الصحية المتعددة، ومنها: سرطان الدماغ وفقدان الذاكرة التدريجي، وما إلى هنالك من آثار سلبية. ولكن ـ لماذا كل هذا القلق من استخدام الهواتف النقالة؟ ولماذا المغالاة؟ فحتى هذه اللحظة لايوجد دليل قاطع على أثر النقال على ذاكرة الإنسان، وليس هناك أيضاً أي دليل على أنه يسبب السرطان. غير أن الموجات القصيرة التي تنبعث من الهواتف النقالة لابد أن تترك أثراً ما. وإلا ماهو سبب سرعة النمو غير الطبيعي لديدان التجربة التي تتعرض للموجات القصيرة؟ وما سر ارتباك وحيرة فئران التجربة التي أخضعت لتأثيرات الموجات القصيرة؟ إن ذلك يجعل الباحث يفكر في أن مستخدم الهاتف النقال سينال قسطاً من الضرر! طبخ الدماغ! لقد تحدثت الصحف عن أضرار مبالغ فيها للهواتف النقالة، وكتب على الصفحات الأولى منها عناوين مخيفة، وحكايات من دراسات لم تنشر حول تأثيرها على الذاكرة. بل إن هناك مجلة شعبية بريطانية ذهبت مؤخراً إلى حد تصوير عملية طبخ الدماغ بواسطة الموجات القصيرة «الميكرويف»! لكن حديث القرايا ليس كحديث السرايا كما يقال. وما يصدر عن العلماء الذين تدور أبحاثهم في صلب الموضوع مختلف تماماً. فلا دليل لديهم على أن الهواتف النقالة تسبب السرطان أو أي مرض آخر. ولا صحة لمقولة أن الموجات المنبعثة عن الجوالات تطبخ الدماغ على نار هادئة. وأخيراً وليس آخراً، فإن الدراسات التي أجريت مؤخراً لمعرفة أثر الموجات القصيرة على تركيز الدماغ، وإمكانية تشوشه لم تتوصل إلى أية نتيجة. ومن أكثر الحقائق غرابة ماجاءت به الدراسة المعروفة حالياً «بفقدان الذاكرة». والتي نشرت الأسبوع الماضي في «المجلة العالمية للإشعاعات الحيوية». حيث قام منظمو هذه الدراسة بتثبيت جهاز يصدر موجات قصيرة مشابهة لتلك التي تصدر عن الهاتف النقال بالقرب من أذن الأشخاص الذين تطوعوا لإجراء التجارب عليهم، فوجدوا أن هؤلاء الأشخاص قادرون على تذكر الكلمات والصور التي عرضت عليهم على شاشات الكمبيوتر دون أي تأثير للموجات التي تصدر عن أجهزة التجربة . ورغم أن النتائج كانت مغايرة لما جاء في التقارير الصحفية حول هذا الأمر. إلا أن قائد فريق التجارب لم يشأ أن يعطي قراراً نهائياً بآثار الهواتف النقالة على مستخدميها، مع أنه استبعد فكرة التأثير الفوري للهواتف على ذاكرة الإنسان! هناك أثر تم اكتشافه للموجات القصيرة على الخاضعين للتجربة، رغم أنه لم يكن متوقعاً أبداً. فلقد عملت الموجات هذه على تقصير المدة اللازمة للاستجابة للمؤثر، الذي تمثل في كلمات معروضة على الشاشة. حيث كانت الاستجابة أسرع بنسبة 4% في حالة وجود جهاز إصدار الموجات قريباً من الأذن وبوضع مفتوح. وكانت هذه النتيجة غريبة وغير حاسمة؛ لأن التجربة لم تتم على عدد كاف حتى الآن. وقد فسر السيد «بيرس» قائد فريق التجارب التناقص بالفرض اللازم للاستجابة للمؤثر والتي كانت أسرع من الاستجابة بالظروف الطبيعية، بأن وجود الموجات القصيرة عندما يكون الجهاز مفتوحاً يؤدي إلى تسريع انسياب الإشارات الكهربائية في المنطقة المسؤولة عن الاستجابة بالدماغ والتي تربط حاسة البصر بالمنطقة المسؤولة عن الأداء اللفظي واللغوي عند الإنسان. لكن «بيرس» لم يعط تفسيراً لماذا يحدث هذا التسارع بانسياب الإشارات الكهربائية تلك. الموجات القصيرة وانقسام الخلايا إن هذا الاكتشاف يضاف إلى حقائق أخرى تم اكتشافها فيما يتعلق بالموجات التي يصدرها الهاتف الخليوي. ومن أهم تلك الحقائق التي اكتشفها الباحث «ديفيد بوميريا» وفريقه بجامعة نوتنغهام، بعد أن دأبوا على تعريض بعض الكائنات الدقيقة بشكل مستمر للموجات القصيرة، ومنها الديدان البسيطة التركيب التي يسهل مراقبة تطورها البيولوجي وفهم مايطرأ على تكوينها بسهولة. وقد وجد فريق البحث هذا أن اليرقات التي تم تعريضها لجرعة مستمرة طوال الليل للموجات فوق الصوتية قد نمت بسرعة تزيد 5% على تلك التي لم تتعرض للظروف نفسها، إضافة إلى أن هذه اليرقات كانت أبطأ من غيرها بالتمعج. وربما يدل ذلك التسارع بالنمو إلى تأثير الموجات القصيرة على سرعة انقسام الخلايا، وهكذا فإن فريق البحث بصدد إجراء التجربة نفسها على حيوان ثديي لمعرفة تأثير الموجات القصيرة على انقسام خلاياه، الأمر الذي سيثير المخاوف حول قدرة هذه الموجات القصيرة على سرعة انقسام الخلايا السرطانية. إلا أن قائد فريق البحث يقلل من هذه المخاوف بحجة أن تعريض الديدان وحيدة الخلية إلى ليلة متواصلة من الموجات القصيرة يعادل تعريض الإنسان إلى الموجات نفسها لمدة عقد من الزمان. ويحاول الدكتور «ديفيد بوميريا» التوصل إلى معرفة تأثير الموجات القصيرة التركيب الحيوي للديدان الخيطية، فلديه الآن الدليل القاطع على أن البروتينات تتشكل نتيجة تعريض الخلية للموجات الكهرومغناطيسية والتي تسمى «البروتينات الحرارية». ورغم تسميتها بهذا الاسم، فإن سبب تشكلها لايعود فقط إلى الحرارة الناجمة عن الموجات القصيرة التي تكون ضعيفة جداً، بل إن تلك الموجات تعمل على إيجاد ظروف غير عادية لحفز الخلايا على الانقسام. ولقد دعم هذا الاعتقاد ماجاء به فريق بحث آخر بقيادة «هنري لاي» من جامعة واشنطن في سياتل بأمريكا، الذي ادعى أن فئران التجربة التي تم تعريضها للموجات القصيرة جداً «الكهرومغناطيسية» تقوم بإنتاج مسكنات آلام طبيعية في أجسامها تدعى «إندورفينز»، وأنها ربما تكون أكثر صخباً ومرحاً تحت تأثير الكحول، كما أنها تستجيب بقوة لتأثير المورفين وأحماض البربيتوريل المسكنة. كما وجد فريق «هنري لاي» دليلاً على أن تعرض الفئران للأشعة الكهرومغناطيسية يؤدي إلى إطلاق العنان لإفراز هرمون الكورتيكوتروبين المسؤول عن التوتر، كما أنها تؤدي إلى جزر ومد في هرمون الإستيلكولين المسؤول عن نقل الإشارات الدماغية الخاصة بالذاكرة أو التنبيه والإشارات الأخرى. ورغم أن «هنري لاي» متمسك جداً بآرائه حول الآثار السلبية والأضرار التي تترتب على استخدام الهاتف الخليوي إلا أنه ليس لديه حسب إقراره مايثبت أن أولئك الذين يستخدمون الهواتف النقالة قد أصابتهم أضرار بسبب هذا الاستخدام، مع أن هناك تحذيرات عامة من استخدام الجوال في المناطق التي تستخدم فيها أجهزة الرادار ومراقبة هبوط الطائرات وغيرها من الأجهزة الإلكترونية الطبية. الدماغ.. أيضاً ولقد ثارت المخاوف من جديد خلال العام المنصرم حول أثر استخدام الهواتف الخليوية على الدماغ بفضل الحقائق التي كشف عنها «جون تاترسال» وفريقه في مختبرات البحث والتقييم بوزارة الدفاع الأمريكية في «بورتون لاون»، عندما قام هذا الفريق بتعريض مقطع من الدماغ للموجات القصيرة جداً لدى فأر التجارب، فوجد أن الإشارات الكهربائية بالدماغ قد تبلدت بعض الشيء وضعفت الاستجابة أو القدرة على الحفز لديه. وهكذا كان وقع النتائج على الناس كبيراً عندما علموا أن استخدام الهاتف النقال قد يؤثر على الدماغ ويشوشه، ما جعل هذه النتائج تبدو كأنها إثبات آخر على الآثار الضارة لاستخدام الهواتف النقالة. إن الأدلة التي تظهر من يوم لآخر حول آثار الهواتف النقالة على الأدمغة متضاربة وغير واضحة. فالجزء المسؤول عن عملية التعلم بالدماغ عند الإنسان يقع في الأعماق الداخلية للدماغ، ما يجعل تأثير الموجات الكهرومغناطيسية عليه قصيرة لبعده عن السطح. كما أن هناك دلائل تم التوصل إليها تفيد بأن الموجات القصيرة جداً قد جعلت الخلايا العصبية في بعض التجارب أكثر قدرة وسرعة على الاستجابة للمتغيرات المرتبطة بالذاكرة. زد على ذلك أن النتائج التي توصل إليها مختبر ما لم يحصل عليها مختبر آخر حاول الوصول إليها، ما يجعل هذه النتائج صعبة التفسير والفهم أو مشكوكاً في صحتها أو دقتها. ولأن النتائج التي تم التوصل إليها حتى الآن لاتزال موضع جدل وشك، فإن ذلك يجعل من اعتمادها أو تصديقها أمراً غير مبرر!. فمثلاً ادعى «ديفيد لاي» في عام 1995م أن الحمض البروتيني DNA قد شهد انقسامات سريعة ومفاجئة عندما تعرض للموجات القصيرة الدقيقة الكهرومغناطيسية، وكانت هذه الانقسامات مشابهة لمايحدث للخلايا السرطانية. عندما تتعرض للأشعة أو المواد الكيماوية القوية المفعول. غير أن جوزيف روتي ـ وهو اختصاصي أشعة في جامعة واشنطن ـ يفند ذلك بالقول: «لو كان ذلك صحيحاً لتغير المفهوم الذي يقوم عليه علم الإشعاع كلياً». وفي عام 1997م، تلقت هذه الادعاءات التي تحوم حول آثار الهواتف النقالة دفعة أخرى، حينما وجد فريق البحث في مستشفى إديليد الملكي في أستراليا أن تأثير الموجات التي تعرض لها فأر التجربة على مدى 18 شهراًـ والتي تشبه الموجات الصادرة عن جهاز الهاتف النقال ـ قد ضاعف حالات الإصابة بالورم الليمفاوي مقارنة مع الفئران التي لم تتعرض لمثل تلك الإشعاعات. وهكذا فقد عادت مشكلة السرطان أو بالأحرى لغز الإصابة بالسرطان للواجهة مرة أخرى. غير أن الأبحاث التي أجريت منذ ذلك الاكتشاف أخفقت في التوصل إلى أي دليل مشابه يعزز الشكوك حول احتمال تزايد حالات الإصابة بالسرطان بسبب تأثير الهاتف النقال. ومن بين الأبحاث التي أجريت ماتم في قاعدة جوية للأبحاث في تكساس حيث تم تعريض فأر تجارب أجريت له عمليات هندسة وراثية جعلته قابلاً للإصابة بالأورام السرطانية، إذ تم تعريضه للأشعة الكهرومغناطيسية لفترات طويلة، تصل إلى 20 ساعة يومياً، لفترة 18 شهراً، ومع ذلك لم تظهر عليه أعراض الإصابة بأية عوارض سرطانية. وهناك نتيجة سارة توصل إليها أحد الأبحاث مفادها أن الأشعة أو الموجات القصيرة مفيدة للإنسان، فقد وجد فريق بحث بقيادة« ديليام روس» من المركز الطبي بكاليفورنيا أن فئران التجربة التي عرضت للموجات القصيرة لفترة ساعتين يوميَّا كانت أكثر مقاومة للإصابة بالسرطان عندما أعطيت مواد كيماوية مسببة للسرطان. غير أن أحداً لم يصل مرة أخرى لمثل هذه النتائج، وإنما يدل على أن النتائج المتعلقة بآثار الموجات القصيرة التي تدرس منذ فترة طويلة تتفاوت من مختبر لآخر. أما الأخطاء القابلة للحدوث في هذا المجال فهي متعددة الأسباب، ومنها تداخل الإشعاعات والموجات الصادرة عن عدة أجهزة في مكان واحد، إضافة إلى أن الباحثين لايمكنهم الوثوق بالأجهزة لعدم قدرتهم على الجزم بأن ارتفاع حرارة الأجهزة المستخدمة لايؤثر على دقة النتائج. وأخيراً، هل يجب علينا أن ننسى ونضع جانباً المخاوف من استخدام الهاتف النقال وأثره على الدماغ، ومادامت لاتسبب السرطان لدى فئران التجربة فهي بالطبع لن تسبب ذلك عند الإنسان. غير أن الأمر يتطلب الحذر دون الوقوع فريسة للخوف